الثلاثاء، 7 مارس 2023

قضايا نقدية من كتاب أدب الطلب للشوكاني

 

 قضايا نقدية من كتاب أدب الطلب للشوكاني

     أحمد الحق تبارك وتعالى حق حمده وأصلي وأسلم على خير البريه وسيد البشرية سيدنا محمد r وبعد:

البيانات الببليوجرافيا للكتاب:

اسم الكتاب: أدب الطلب ومنتهى الأرب.

اسم المؤلف: القاضي محمد بن علي الشوكاني.

اسم محقق الكتاب: عبد الله يحيى السريحي.

الناشر: دار الكتب العلمية – لبنان.

الطبعة: الأولى- 2008م.

عدد الصفحات: 248.

ترجمة المؤلف:

     هو شيخ الإسلام القاضي محمد بن علي الشوكاني أبو علي بدر الدين محمد بن علي بن محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن محمد بن صلاح بن إبراهيم بن محمد العفيف بن محمد بن رزق، الشوكاني.

     ولد رحمه اللّه تعالى يوم الاثنين الثامن والعشرين من ذي الحجة سنة 1173 هجريه في بلدة "هجرة شوكان". 

نشأته وحياته:

     نشأ رحمه اللّه تعالى بصنعاء اليمن، وتربى في بيت العلم والفضل فنشأ نشأة دينيه طاهرة، تلقى فيها معارفه الأولى على والده وأهل العلم والفضل في بلدته، فحفظ القرآن الكريم وجوّده، ثم حفظ كتاب " الأزهار " للإمام "المهدي " في فقه الزيديه، ومختصر الفرائض للعُصيفيري و الملحه للحريري، والكافيه والشافيه لابن الحاجب، وغير ذلك من المتون التي اعتاد حفظها طلاب العلم في القرون المتأخرة. وكان ـ رحمه اللّه تعالى ـ كثير الاشتغال بمطالعة كتب التاريخ، والأدب، وهو لايزال مشتغلاً بحفظ القرآن الكريم.

      ومما ساعد الإمام الشوكاني على طلب العلم والنبوغ المبكر وجوده وتربيته في بيت العلم والفضل، فإن والده رحمه اللّه تعالى كان من العلماء المبرزين في ذلك العصر، كما أن أكثر أهل هذه القرية كانوا كذلك ـمن أهل العلم والفضل.

      استطاع "الشوكاني" أن يستفيد من علماء عصره، وما أكثرهم، فأخذ يطلب العلم بجميع فنونهفقرأشرح الأزهار " على والده، وشرح الناظري " علىمختصر العصيفيري "

     كما قرأ " التهذيب " للعلامة التفتازاني، والتلخيص " في علوم البلاغة للقزويني، والغاية لابن الإمام، ومختصر المنتهى " لابن الحاجب في أصول الفقه، ومنظومة الجرزي " في القراءات و "منظومة " الجزار في العروض، وآداب البحث والمناظرة " للإمام العضد، وما إلى ذلك من سائر العلوم النقلية والعقلية.

     وظل هكذا ينتقل بين العلماء، يتلقَّى عليهم، ويستفيد منهم، حتى صار إماماً يشار إليه بالبنان، وراسا يرحل إليه، فقصده طلاب العلم والمعرفة للأخذ عنه، من اليمن والهند، وغيرهما حتى طار صيته في جميع البلاد، وانتفع بعلمه كثير من الناس.

      وقد تأثر الإمام الشوكاني بشخصيَّات كثيرة من العمالقة الذين كانوا قبله، مثل:

منهم من بلده اليمن، وأشهرهمالعلامة محمد بن إبراهيم الوزير، والعلامة محمد بن إسماعيل الأمير (ت: 1182ه) و والعلامة الحسن بن مهدي المقبلي (ت: 1108ه) والحسين أحمد الجلال (ت: 804ه) ومنهم من غير بلده ولم يكونوا في عصره، وعلى رأسهمإمام الدنيا ابن حزم الأندلسي (ت: 456ه) وشيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728ه).

       والواضح في حياة " الشوكانيأنه بدأ حياته منقبضاً عن الناس، لايتصل بأحد منهم، إلا في طلب العلم ونشره، ولا سيما هؤلاء الذين يحكمون أو يتصلون بالحاكمين، وكان يرسل فتاويه، ويصدر أحكامه دون ان يتقاضى عليها أجراً.

     وكانت حياته بسيطة متقشفة، يعيش على الكفاف الذي وفره له والده فلما تولى القضاء، وأجزل له الأجر، تنعم في مأكله ومشربه وملبسه ومركبه، وأضفى على تلاميذه وشيوخه مما وسع اللّه عليه به.

من شيوخه:

والده :علي بن محمد بن عبدالله بن الحسن الشوكاني المتوفى سنة 1211ه

أحمد بن محمد بن أحمد بن مطهر القابلي المتوفي سنة 1227ه

أحمد بن عامر الحدائي المتوفي سنة 1197ه

أحمد بن محمد الحرازي المتوفي سنة 1227ه

إسماعيل بن الحسن المهدي بن أحمد ابن الإمام القاسم بن محمد المتوفي سنة 1206ه

الحسن بن إسماعيل المغربي المتوفي سنة 1208ه

صديق علي المزجاجي الحنفي المتوفي سنة 1209ه

من تلاميذه:

ابنه أحمد بن محمد بن علي الشوكاني المتوفي سنة 1281ه

محمد بن أحمد السودي المتوفي سنة 1236ه

محمد بن أحمد مشحم الصعدي الصنعاني المتوفي سنة 1223ه

أحمد بن علي بن محسن، ابن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم المتوفي سنة 1223ه

محمد بن محمد بن هاشم بن يحيى الشامي، ثم الصنعاني المتوفي سنة 1251ه

عبدالرحمن بن أحمد البهلكي الضمدي الصبيائي المتوفي سنة 1227ه

أحمد بن عبدالله الضمدي المتوفي سنة 1222ه

من مؤلفاته:

خلف الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى ثروة عظيمة من المؤلفات بلغت (278) مؤلف، ولا يزال معظمها مخطوطاً، ومن أهم كتبه المطبوعة:

فتح القدير الجامع بين فنَّي الرواية والدراية من التفسير.

الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة.

الدُّرر البهيَّة. وشرحه الدَّراري المضيَّه في شرح الدُّرر البهيَّة.

البدر الطالع بمحاسن مَن بعد القرن السابع.

السَّيل الجرَّار المتدفِّق على حدائق الأزهار.

نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار.

وفاته:

     توفي الإمام الشوكاني رحمه الله ليلة الأربعاء، لثلاث بقين من شهر جمادى الآخرة، سنة   1250ه عن ستٍّ وسبعين سنة وسبعة أشهر، وصلِّي عليه في الجامع الكبير بصنعاء، ودُفن بمقبرة خزيمة المشهورة بصنعاء، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه عنا كل خير.

      قال مباركوبعد هذا لا يسعني إلا القول أن الإمام القاضي الشوكاني: كان إماماً ديّناً، ثقةً، متقناً، علامةً، متبحراً، صاحب سنة واتباع. وقد ساعدته الثقافة الواسعة وذكاؤه الخارق، إلى جانب إتقانه للحديث وعلومه، والقرآن وعلومه، والفقه وأصوله على الاتجاه نحو الاجتهاد وخلْع رقبة التقليد، وهو دون الثلاثين، وكان قبل ذلك على المذهب الزيدي، فصار عَلَمًا من أعلام المجتهدين، وأكبر داعية إلى تَرْك التقليد، وأخذ الأحكام اجتهاداً من الكتاب والسنة، فهو بذلك يُعَدّ في طليعة المجددين في العصر الحديث، ومن الذين شاركوا في إيقاظ الأمة الإسلامية في هذا العصر. 

مقدمة المؤلف:

بسم الله الرحمن الرحيم

     أحمدك لا أحصي ثناءً عليك كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله، وأسألك التثبيت والهداية وأعوذ بك من الخذلان والغواية.

     وبعد، فإنّي قد عزمتُ – عزم الله لي الخير – على أن أجمع في هذه الورقات ما ينبغي لطالب العلم اعتماده في طلبه والتحلي به في إيراده وإصداره، وابتدائه وانتهائه، وما يشرع فيه ويتدرج إليه حتى يبلغ مراده، على وجه يكون به فائزاً بما هو الثمرة والعلة الغائية التي هي أول الفكر وآخر العمل. وسميته (أدب الطلب ومنتهى الأرب).

     وَإِنِّي أتصور الْآن أَن الْكَلَام بمعونة الله ومشيئته لَا بُد أَن يتَعَدَّى إِلَى فَوَائِد ومطالب ينْتَفع بهَا المنتهي كَمَا ينْتَفع بهَا الْمُبْتَدِئ وَيحْتَاج إِلَيْهَا الْكَامِل كَمَا يحْتَاج إِلَيْهَا المقصر ويعدها المتحققون بالعرفان من أعظم الْهَدَايَا.

     فَأول مَا على طَالب الْعلم أَن يحسن النِّيَّة وَيصْلح طويته وَيتَصَوَّر أَن هَذَا الْعَمَل الَّذِي قصد لَهُ وَالْأَمر الَّذِي أَرَادَهُ هُوَ الشَّرِيعَة الَّتِي شرعها الله سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ، وَبعث بهَا رسله وَأنزل بهَا كتبه ويجرد نَفسه عَن أَن يشوب ذَلِك بمقصد من مَقَاصِد الدُّنْيَا، أَو يخلطه بِمَا يكدره من الإرادات الَّتِي لَيست مِنْهُ، كمن يُرِيد بِهِ الظفر بِشَيْء من المَال أَو يصل بِهِ إِلَى نوع من الشّرف أَو الْبلُوغ إِلَى رئاسة من رئاسات الدُّنْيَا أَو جاهٍ يحصله بِهِ، فَإِن الْعلم طيب لَا يقبل غَيره، وَلَا يحْتَمل الشّركَة، والروائح الخبيثة إِذا لم تغلب على الروائح الطّيبَة، فَأَقل الْأَحْوَال أَن تساويها، وبمجرد هَذِه الْمُسَاوَاة لَا تبقى للطيب رَائِحَة، وَالْمَاء الصافي العذب الَّذِي يستلذه شَاربه كَمَا يكدره الشَّيْء الْيَسِير من المَاء المالح فضلا عَن غير المَاء من القاذورات، بل تنقص لذته مُجَرّد وجود القذاة فِيهِ وَوُقُوع الذُّبَاب عَلَيْهِ، هَذَا على فرض أَن مُجَرّد تشريك الْعلم مَعَ غَيره لَهُ حكم هَذِه المحسوسات، وهيهات ذَاك، فَإِن من أَرَادَ أَن يجمع فِي طلبه الْعلم بَين قصد الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فقد أَرَادَ الشطط وَغلط أقبح الْغَلَط، فَإِن طلب الْعلم من أشرف أَنْوَاع الْعِبَادَة وأجلها وأعلاها، وَقد قَالَ الله سُبْحَانَهُ: (وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين) ]البينة:5[، فقيّد الْأَمر بِالْعبَادَة بالإخلاص الَّذِي هُوَ روحها، وَصَحَّ عَن رَسُول الله r حَدِيث (إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَلكُل امْرِئ مَا نوى) وَهُوَ ثَابت فِي دواوين الْإِسْلَام كلهَا، وَقد تَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ، وَإِن كَانَ أحاديّاً أجمع جَمِيع أهل الْإِسْلَام على ثُبُوته وَصِحَّته. وَقد تقرّر فِي علم الْبَيَان الْأُصُول بِأَن (إِنَّمَا) من صِيغ الْحصْر، وَثَبت القَوْل بذلك عَن الصَّحَابَة، رُوِىَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه احْتج على اخْتِصَاص الرِّبَا بالنَّسِيئَة بِحَدِيث (إنَّما الرِّبَا فِي النَّسِيئَة)، وَلم يُخَالِفهُ الصَّحَابَة فِي فهمه، وَإِنَّمَا خالفوه فِي الحكم مستدلين بأدلة أُخْرَى مصرحة بِثُبُوت رَبًّا الْفضل، وكما أَن هَذَا التَّرْكِيب يُفِيد مَا ذَكرْنَاهُ من الْحصْر كَذَلِك لفظ الْأَعْمَال (بِالنِّيَّةِ) أَو بِالنِّيَّاتِ كَمَا ورد فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث الثَّابِتَة فِي الصَّحِيح فَإِن الْألف وَاللَّام تفِيد الِاسْتِغْرَاق وَهُوَ يسْتَلْزم الْحصْر، وَهَكَذَا ورد فِي بعض أَلْفَاظ الحَدِيث (لَا عمل إِلَّا بنية) وَهِي أَيْضا من صِيغ الْحصْر، بل هِيَ أقواها، وَالْمرَاد بِالْأَعْمَالِ هُنَا: أَفعَال الْجَوَارِح حَتَّى اللِّسَان، فَتدخل ]في ذلك[ الْأَقْوَال، وَمن نَازع فِي ذَلِك فقد أَخطَأ، ثمَّ لَا بُد لقَوْله: بِالنِّيَّاتِ من تَقْدِير متعلق عَام لعدم وُرُود دَلِيل يدل على المتعلق بالخاص، فَيقدر الْوُجُود أَو الْكَوْن أَو الِاسْتِقْرَار أَو الثُّبُوت أَو مَا يُفِيد مفَاد ذَلِك، فَيكون التَّقْدِير: إِنَّمَا وجود الْأَعْمَال وَكَونهَا واستقرارها أَو ثُبُوتهَا بِالنِّيَّاتِ، فَلَا وجود أَو لَا كَون أَو لَا اسْتِقْرَار أَو لَا ثُبُوت لما لم يكن كَذَلِك، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ نية، لَا يُقَال أَن تَقْدِير الثُّبُوت والوجود والكون وَنَحْوهَا يسْتَلْزم عدم وجود الذَّات أَو عدم النِّيَّة وَقد وجدت فِي الْخَارِج، لأَنا نقُول: المُرَاد الذَّات الشَّرْعِيَّة، وَهِي غير مَوْجُودَة، وَلَا اعْتِبَار بوجودات غير شَرْعِيَّة، وَنفي الذَّات هُوَ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، فَلَا يُعدل عَنهُ إِلَى غَيره إِلَّا لصارف، وَلَا صَارف هُنَا، على أَنه لَو فُرض وجود صَارف إِلَى المعنى المجازي لم يكن الْمُقدر هَاهُنَا إِلَّا الصِّحَّة أَو مَا يُفِيد مفادها وَهِي مستلزمة لنفي الذَّات، فتقرر بِمَجْمُوع مَا ذكرنَا أَن حُصُول الْأَعْمَال وثبوتها لَا يكون إِلَّا بِالنِّيَّةِ، فَلَا حُصُول أَو لَا ثُبُوت لما لَيْسَ كَذَلِك، فَكل طَاعَة من الطَّاعَات وَعبادَة من الْعِبَادَات إِذا لم تصدر عَن إخلاص نِيَّة وَحسن طوية لَا اعْتِدَاد بهَا، وَلَا الْتِفَات إِلَيْهَا، بل هِيَ إِن لم تكن مَعْصِيّة فَأَقل الْأَحْوَال أَن تكون من أَعمال الْعَبَث واللعب الَّتِي هِيَ بِمَا يصدر عَن المجانين أشبه مِنْهَا بِمَا يصدر عَن العقلاء.

     وَمن أهم مَا يجب على طَالب الْعلم تصَوره عَنهُ الشُّرُوع، واستحضاره عِنْد الْمُبَاشرَة، بل وَفِي كل وَقت من أقوات طلبه مبتدئا أَو منتهيا متعلما وعالما، أَن يقر فِي نَفسه أَن هَذَا الْعلم الَّذِي هُوَ بصدده هُوَ تَحْصِيل الْعلم الَّذِي شَرعه الله لِعِبَادِهِ والمعرفة لما تعبدهم فِي مُحكم كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله وَالْوُقُوف على أسرار كَلَام الله عز وَجل وَرَسُوله r، وَأَن هَذَا الْمطلب الَّذِي هُوَ بِسَبَب تَحْصِيله لَيْسَ هُوَ من المطالب الَّتِي يقصدها من هُوَ طَالب للجاه وَالْمَال والرئاسة بل هُوَ مطلب يتأجر بِهِ الرب سُبْحَانَهُ وَتَكون غَايَته الْعلم بِمَا بعث الله بِهِ رَسُوله وَأنزل فِيهِ كتبه وَذَلِكَ سَبَب الظفر بِمَا عِنْد الله من خير وَمثل هَذَا لَا مدْخل فِيهِ لعصبية وَلَا مجَال عِنْده لحمية بل هُوَ شَيْء بَين الله سُبْحَانَهُ وَبَين جَمِيع عباده تعبدهم بِهِ تعبدا مُطلقًا أَو مَشْرُوطًا بِشُرُوط وَأَنه لَا يخرج عَن ذَلِك فَرد مِنْهُم بل أَقْدَامهم مُتَسَاوِيَة فِي ذَلِك عالمهم وجاهلهم وشريفهم ووضيعهم وقديمهم وحديثهم لَيْسَ لوَاحِد مِنْهُم أَن يَدعِي أَنه غير متعبد بِمَا تعبد الله بِهِ عباده أَو أَنه خَارج عَن التَّكْلِيف أَو أَنه غير مَحْكُوم عَلَيْهِ بِأَحْكَام الشَّرْع ومطلوب مِنْهُ مَا طلبه الله من سَائِر النَّاس فضلا عَن أَن يرتقي إِلَى دَرَجَة التشريع وَإِثْبَات الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وتكليف عباد الله سُبْحَانَهُ بِمَا يصدر عَنهُ من الرَّأْي فَإِن هَذَا أَمر لم يكن إِلَّا لله سُبْحَانَهُ لَا لغيره من الْبشر كَائِنا من كَانَ إِلَّا فِيمَا فوضه إِلَى رسله وَلَيْسَ لغير الرُّسُل فِي هَذَا مدْخل بل الرُّسُل مِنْهُم متعبدون بِمَا تعبدهم الله بِهِ مكلفون بِمَا كلفوا بِهِ مطالبون بِمَا طلبه مِنْهُم وتخصيصهم بِأُمُور لَا تكون لغَيرهم لَا يَعْنِي خُرُوجهمْ عَن كَونهم كَذَلِك بل هم من جملَة الْبشر وَمن سَائِر الْعباد فِي التَّكْلِيف بِمَا جاؤوا بِهِ عَن الله وَقد أخبروا بِهَذَا وَأخْبر بِهِ الله عَنْهُم كَمَا فِي غير مَوضِع من الْكتاب الْعَزِيز وَمن السّنة النَّبَوِيَّة وكما وقفنا عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور مكررا فِي كل وَاحِد مِنْهَا وَإِذا كَانَ هَذَا حَال الرُّسُل عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي التَّعَبُّد بالأوامر الشَّرْعِيَّة والتوقف فِي التَّبْلِيغ على مَا أَمرهم تَعَالَى بتبليغه فَلَا يشرعون للنَّاس إِلَّا مَا أذن لَهُم بِهِ وَأمرهمْ بإبلاغه وَلَيْسَ لَهُم من الْأَمر شَيْء إِلَّا مُجَرّد الْبَلَاغ عَن الله والتوسط بَينه وَبَين عباده فِيمَا شَرعه لَهُم وتعبدهم بِهِ كَمَا هُوَ معنى الرَّسُول والرسالة لُغَة وَشرعا عِنْد من يعرف علم اللُّغَة ومصطلح أهل الشَّرْع وَلَا يُنَافِي هَذَا وُقُوع الْخلاف بَين أَئِمَّة الْأُصُول فِي إِثْبَات اجْتِهَاد الْأَنْبِيَاء ونفيه فَإِن الْخلاف الْمُحَرر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة لَفْظِي عِنْد من أنصف وحقن فَكيف بِحَال غَيرهم من عباد الله مِمَّن لَيْسَ هُوَ من أهل الرسَالَة وَلَا جعله الله من أهل الْعِصْمَة كالصحابة فالتابعين فتابعيهم من أَئِمَّة الْمذَاهب فسائر حَملَة الْعلم فَإِن من زعم أَن لوَاحِد من هَؤُلَاءِ أَن يحدث فِي شرع الله مَا لم يكن فِيهِ أَو يتعبد عباد الله بِمَا هُوَ خَارج عَن مَا هُوَ مِنْهُ فقد أعظم على الله الْفِرْيَة وَتقول على الله تَعَالَى بِمَا لم يقل وأوقع نَفسه فِي هوة لَا ينجو مِنْهَا إِلَّا طرحها فِي مطرح سوء ووضعها فِي مَوْضُوع شَرّ ونادى على نَفسه بِالْجَهْلِ والجرأة على الله تَعَالَى والمخالفة لما جَاءَت بِهِ الشَّرَائِع وَمَا أجمع عَلَيْهِ أَهلهَا فَإِن هَذِه رُتْبَة لم تكن إِلَّا لله ومنزلة لَا ينزلها غَيره وَلَا يدعيها سواهُ فَمن ادَّعَاهَا لغيره تَصْرِيحًا أَو تَلْوِيحًا فقد أَدخل نَفسه فِي بَاب من أَبْوَاب الشّرك وَكَانَ ذَلِك هُوَ الْفَائِدَة الَّتِي استفادها من طلبه وَالرِّبْح الَّذِي ربحه من تَعبه ونصبه وَصَارَ اشْتِغَاله بِالْعلمِ جِنَايَة عَلَيْهِ ومحنة لَهُ ومصيبة أصَاب بهَا نَفسه وبلية قادها إِلَيْهَا ومعصية كَانَ عَنْهَا بِالْجَهْلِ وَعدم الطّلب فِي رَاحَة وَهَكَذَا من لم يحسن لنَفسِهِ الِاخْتِيَار وَلَا سلك فِيهَا مسالك الْأَبْرَار وَلَا اقْتدى بِمن أَمر الله الِاقْتِدَاء بِهِ من أهل الْعلم الَّذين جعلهم محلا لذَلِك ومرجعا.

      فَإِذا تقرر لَك هَذَا وَعلمت بِمَا فِيهِ من الضَّرَر الْعَظِيم الَّذِي يمحق بركَة الْعلم ويشوه وَجهه ويصيره بعد أَن كَانَ من الْعِبَادَات الَّتِي لَا تشبهها طَاعَة وَلَا تماثلها قربَة مَعْصِيّة مَحْضَة وخطيئة خَالِصَة تبين لَك نفع مَا أرشد إِلَيْهِ من تحري الْإِيمَان الَّذِي من أعظم أَرْكَانه وأهم مَا يحصله لَك أَن تكون منصفا لَا متعصب فِي شَيْء من هَذِه الشَّرِيعَة فَإِنَّهَا وَدِيعَة الله عنْدك وأمانته لديك فَلَا تخنها وتمحق بركتها بالتعصب لعالم من عُلَمَاء الْإِسْلَام بِأَن تجْعَل مَا يصدر عَنهُ من الرَّأْي ويروى لَهُ من الِاجْتِهَاد حجَّة عَلَيْك وعَلى سَائِر الْعباد، فَإنَّك إِن فعلت ذَلِك كنت قد جعلته شَارِعا لَا متشرعا مُكَلّفا لَا مُكَلّفا وتعبدا لَا متعبدا وَفِي هَذَا من الْخطر علك والوبال لَك مَا قدمْنَاهُ فَإِنَّهُ وَإِن فضلك بِنَوْع من أَنْوَاع الْعلم وفَاق عَلَيْك بمدرك من مدارك الْفَهم فَهُوَ لم يخرج بذلك عَن كَونه مَحْكُومًا عَلَيْهِ متعبدا بِمَا أَنْت متعبد فضلا عَن أَن يرْتَفع عَن هَذِه الدرجَة إِلَى دَرَجَة يكون رَأْيه فِيهَا حجَّة على الْعباد واجتهاده لَدَيْهَا لَازِما لَهُم بل الْوَاجِب عَلَيْك أَن تعترف لَهُ بِالسَّبقِ وتقر لَهُ بعلو الدرجَة اللائقة بِهِ فِي الْعلم مُعْتَقدًا أَن ذَلِك الِاجْتِهَاد الَّذِي اجتهده وَالِاخْتِيَار الَّذِي اخْتَارَهُ لنَفسِهِ بعد إحاطته بِمَا لَا بُد مِنْهُ هُوَ الَّذِي لَا يجب عَلَيْهِ غَيره وَلَا يلْزمه سواهُ لما ثَبت فِي = الصَّحِيح = عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من طرق أَنه إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَفِي خَارج = الصِّحَاح = فِي طرق أَنه إِذا أصَاب فَلهُ عشر أجور وَقد صَححهُ الْحَاكِم فِي = الْمُسْتَدْرك = وَفضل الله وَاسع وعطاؤه جم وَلَيْسَ لَك أَن تعتقد أَن صَوَابه صَوَاب لَك أَو خطأه خطأ عَلَيْهِ بل عَلَيْك أَن توطن نَفسك على الْجد وَالِاجْتِهَاد والبحث بِمَا يدْخل من تَحت طوقك وتحيط بِهِ قدرتك حَتَّى تبلغ إِلَى مَا بلغ إِلَيْهِ من أَخذ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من ذَلِك الْمَعْدن الَّذِي لَا مَعْدن سواهُ والموطن الَّذِي هُوَ أول الْفِكر وَآخر الْعَمَل فَإِن ظَفرت بِهِ فقد تدرجت من هَذِه الْبِدَايَة إِلَى تِلْكَ النِّهَايَة وَإِن قصرت عَنهُ لم تكن ملوما بعد أَن قررت عِنْد نَفسك وَأثبت فِي تصورك أَنه لَا حجَّة إِلَّا لله وَلَا حكم إِلَّا مِنْهُ وَلَا شرع إِلَّا مَا شَرعه وَإِن اجتهادات الْمُجْتَهدين لَيست بِحجَّة على أحد وَلَا هِيَ من الشَّرِيعَة فِي شَيْء بل هِيَ مُخْتَصَّة بِمن صدرت عَنهُ لَا تتعداه إِلَى غَيره وَلَا يجوز لَهُ أَن يحمل عَلَيْهِ أحدا من عباد الله وَلَا يحل لغيره أَن يقبلهَا عَنهُ ويجعلها حجَّة عَلَيْهِ يدين الله بهَا فَإِن هَذَا شَيْء لم يَأْذَن الله بِهِ وَأمر لم يسوغه لأحد من عباده وَلَا يغرك مَا اسْتدلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِجَوَاز التَّقْلِيد فَإِنَّهُ لَا دلَالَة فِي شَيْء مِمَّا جَاءُوا بِهِ على مَحل النزاع وَقد أوضحنا ذَلِك فِي مؤلف مُسْتَقل وَهُوَ القَوْل الْمُفِيد فِي حكم التَّقْلِيد فَارْجِع إِلَيْهِ إِن بَقِي فِي صدرك حرج فَإنَّك تقف فِيهِ على مَا يريحك وينثلج بِهِ صدرك ويفرح عِنْده روعك.

      فَإِن قلت: وَكَيف يقتدر على تصور مَا أرشدت إِلَى تصَوره ويتمكن من توطين نَفسه على مَا دللت عَلَيْهِ من أَرَادَ الشُّرُوع فِي الْعلم بادئ بَدْء وَهُوَ إِذْ ذَاك لَا يدْرِي مَا الشَّرْع وَلَا يتعقل الْحجَّة وَلَا يعرف الْإِنْصَاف وَلَا يَهْتَدِي إِلَى مَا هديته إِلَيْهِ إِلَّا بعد أَن يتمرن ويمارس وَيكون لَهُ من الْعلم مَا يفهم بِهِ مَا تُرِيدُ مِنْهُ؟

      قلت مَا أرشدك إِلَيْهِ يعرف بِمُجَرَّد الْعقل وسلامة الْفطْرَة وَعدم وُرُود مَا يرد عَلَيْهَا مِمَّا يغيرها وعَلى فرض وُرُود شَيْء من الْمُغيرَات عَلَيْهَا كاعتقاد حقية التَّقْلِيد وَنَحْوه فارتفاع ذَلِك يحصل بِأَدْنَى تَنْبِيه فَإِن هَذَا أَمر يقبله الطَّبْع بِأول وهلة لمطابقته للْوَاقِع وحقيته وكل مَا كَانَ كَذَلِك فَهُوَ مَقْبُول والطبائع تنفعل لَهُ انفعالا بأيسر عمل وَأَقل إرشاد وَهَذَا أَمر يُعلمهُ كل أحد ويشترك فِي مَعْرفَته أَفْرَاد النَّاس على اخْتِلَاف طبقاتهم وَلِهَذَا نبه عَلَيْهِ الشَّارِع فَقَالَ:( كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة وَلَكِن أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه) وَهُوَ ثَابت فِي الصَّحِيح .

     وَإِنِّي أخْبرك أَيهَا الطَّالِب عَن نَفسِي تحدثا بِنِعْمَة الله سُبْحَانَهُ ثمَّ تَقْرِيبًا لما ذكرت لَك من أَن هَذَا الْأَمر كامن فِي طبائع النَّاس ثَابت فِي غرائزهم وَأَنه من الْفطْرَة الَّتِي فطر الله النَّاس عَلَيْهَا إِنِّي لما أردْت الشُّرُوع فِي طلب الْعلم وَلم أكن إِذا ذَاك قد عرفت شَيْئا مِنْهُ حَتَّى مَا يتَعَلَّق بِالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاة إِلَّا مُجَرّد مَا يتلقاه الصَّغِير من تَعْلِيم الْكَبِير لكيفية الصَّلَاة وَالطَّهَارَة وَنَحْوهمَا فَكَانَ أول بحث طالعته بحث كَون الفرجين من أَعْضَاء الْوضُوء فِي الأزهار وَشَرحه لِأَن الشَّيْخ الَّذِي أردْت الْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَالْأَخْذ عَنهُ كَانَ قد بلغ فِي تدريس تلامذته إِلَى هَذَا الْبَحْث فَلَمَّا طالعت هَذَا الْبَحْث قبل الْحُضُور عِنْد الشَّيْخ رَأَيْت اخْتِلَاف الْأَقْوَال فِيهِ سَأَلت وَالِدي رَحمَه الله عَن تِلْكَ الْأَقْوَال أَيهَا يكون الْعَمَل عَلَيْهِ فَقَالَ يكون الْعَمَل على مَا فِي الأزهار، فَقلت صَاحب الأزهار أَكثر علما من هَؤُلَاءِ، قال لا، قلت: فَكيف كَانَ اتِّبَاع قَوْله دون أَقْوَالهم لَازِما فَقَالَ أصنع كَمَا يصنع النَّاس فَإِن فتح الله عَلَيْك فستعرف مَا يُؤْخَذ بِهِ وَمَا يتْرك فَسَأَلت الله عِنْد ذَلِك أَن يفتح عَليّ من معارفه مَا يتَمَيَّز لي بِهِ الرَّاجِح من الْمَرْجُوح وَكَانَ هَذَا فِي أول بحث نظرته وَأول مَوْضُوع درسته وَقَعَدت فِيهِ بَين يَدي الْعلم فَاعْتبر بِهَذَا وَلَا تستبعد مَا أرشدتك إِلَيْهِ فَتحرم بركَة الْعلم وتمحق فَائِدَته.

      ثمَّ مَا زلت بعد كَمَا وصفت لَك أنظر فِي مسَائِل الْخلاف وأدرسها على الشُّيُوخ وَلَا أعتقد مَا يَعْتَقِدهُ أهل التَّقْلِيد من حقية بَعضهم بِمُجَرَّد الإلف وَالْعَادَة والاعتقاد الْفَاسِد والاقتداء بِمن لَا يَقْتَدِي بِهِ بل أسأَل من عندهُ علم بالأدلة على الرَّاجِح وأبحث فِي كتب الْأَدِلَّة عَن مَاله تعلق بذلك أستروح إِلَيْهِ وأتعلل بِهِ مَعَ الْجد فِي الطّلب واستغراق الْأَوْقَات فِي الْعلم خُصُوصا عُلُوم الِاجْتِهَاد وَمَا يلْتَحق بهَا فَإِنِّي نشطت إِلَيْهَا نشاطا زَائِدا لما كنت أتصوره من الِانْتِفَاع بهَا حَتَّى فتح الله بِمَا فتح ومنح مَا منح فَلهُ الْحَمد كثيرا حمدا لَا يحاط بِهِ وَلَا يُمكن الْوُقُوف على كنهه.

      فَإِذا وطنت نَفسك أَيهَا الطَّالِب على الْإِنْصَاف وَعدم التعصب لمَذْهَب من الْمذَاهب وَلَا لعالم من الْعلمَاء بل جعلت النَّاس جَمِيعًا بِمَنْزِلَة وَاحِدَة فِي كَونهم منتمين إِلَى الشَّرِيعَة مَحْكُومًا عَلَيْهِم بِمَا لَا يَجدوا لأَنْفُسِهِمْ عَنْهَا مخرجا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ تحولا فضلا عَن أَن يرتقوا إِلَى وَاحِد مِنْهُم أَو يلْزمه تَقْلِيده وقبوله قَوْله فقد فزت بأعظم فَوَائِد الْعلم وربحت بأنفس فرائده ولأمر مَا جعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمنصف أعلم النَّاس وَإِن كَانَ مقصرا فَإِنَّهُ أخرج الْحَاكِم فِي = الْمُسْتَدْرك = وَصَححهُ مَرْفُوعا أعرف النَّاس أبصرهم بِالْحَقِّ إِذا اخْتلف النَّاس وَإِن كَانَ مقصرا فِي الْعَمَل وَإِن كَانَ يزحف على أستة هَكَذَا فِي حفظي فَليُرَاجع = الْمُسْتَدْرك = فَانْظُر كَيفَ جعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمنصف أعلم النَّاس وَجعل ذَلِك هُوَ الْخصْلَة الْمُوجبَة للأعلمية وَلم يعْتَبر غَيرهَا وَإِنَّمَا كَانَ أبْصر النَّاس بِالْحَقِّ إِذا اخْتلف النَّاس لِأَنَّهُ لم يكن لَدَيْهِ هوى وَلَا حمية وَلَا عصبية لمَذْهَب من الْمذَاهب أَو عَالم من الْعلمَاء فصفت غريزته عَن أَن تتكدر بِشَيْء من ذَلِك فَلم يكن لَهُ مأرب وَلَا مقصد إِلَّا مُجَرّد معرفَة مَا جَاءَ عَن الشَّارِع فظفر بذلك بسهولة من غير مشقة وَلَا تَعب لِأَنَّهُ مَوْجُود إِمَّا فِي كتاب الله وَهُوَ بَين أظهرنَا فِي الْمَصَاحِف الشَّرِيفَة مُفَسّر بتفاسير الْعلمَاء الموثوق بهم وَإِمَّا فِي سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي أَيْضا مَوْجُودَة قد ألف أهل الْعلم فِي أَدِلَّة الْمسَائِل من السّنة كتبا متنوعة مِنْهَا مَا هُوَ على أَبْوَاب الْفِقْه وَمِنْهَا مَا هُوَ على حُرُوف المعجم فَكَانَ تنَاوله يَسِيرا ثمَّ قد تكلم الْأَئِمَّة على صِحَّتهَا وحسنها فجاؤوا بِمَا لَا يحْتَاج النَّاظر مَعَه إِلَى غَيره وَوَضَعُوا فِي ذَلِك مؤلفات مُشْتَمِلَة على ذَلِك اشتمالا على أحسن وَجه وأبدع أسلوب ثمَّ أوضحُوا مَا فِي السّنة من الْغَرِيب بل جمعُوا بَين المتعارضات ورجحوا مَا هُوَ رَاجِح وَلم يَدْعُو شَيْئا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة فَإِذا وقف على ذَلِك من قد تأهل للِاجْتِهَاد وظفر بِعُلُومِهِ أَخذه أَخذ غير أَخذ من لم يكن كَذَلِك وَعمل عَلَيْهِ مطمئنه بِهِ نَفسه سَاكِنة إِلَيْهِ نافرة عَن غَيره هاربة مِنْهُ.

نقد المقدمة:

     ابتدأ الشوكاني رحمه الله بالبسملة، ثم بالحمد والثناء لله U وبالصلاة والسلام على رسوله r طالباً من الله U التثبيت والهداية، ثم أورد غايته من تأليف كتابه الذي يهديه لطالب العلم؛ لتفيده من بداية طلبه إلى أن يصل لمراده ويجني ثمار جهده.

     مستخدماً لفظ ورقات على ما دونه، بينما نجد أن المقدمة بها من الثمرات والفوائد الشيء الكثير وكأنه مصنف مستقل بحد ذاته، وإن دل على شيء فإنما يدل على جُل تواضعه رحمه الله.

     حيث استهل نصيحته بإخلاص النية لله U في طلب العلم، متجرداً من ما يشوب في النفس من مقاصد الدنيا لطلب العلم، من مال أو جاه أو رئاسة، معرجاً بأن يستحضر طالب العلم في كل وقت أن ما هو بصدده من تعلم أو تعليم هو تحصيل العلم كما شرعه الله لعباده، وأن يكون منصف غير متعصب لعالم من العلماء في شيء من الشريعة.

     ثم أورد قصته مع والده في بداية تلقيه للعلم، عندما وجد اختلاف في أقوال العلماء على بعض المسائل الفقهية، فأخذ يسأل والده عن ذلك، فقال له: "اصنع كما يصنع كما يصنع الناس، فإذا فتح الله عليك فستعرف ما يؤخذ به ومايترك" وهذا الموقف والتوجيه، شحذ همته بأن يدرس ويطالع ويبحث، ويسأل أهل العلم ويتأكد خصوصاً في مسائل الاجتهاد، وما دفعه لذلك؛ يقينه بمدى استفادة الناس من ذلك، وصرف وقته بجد ونشاط وهمة عالية إلى أن فتح الله عليه.

     ومن الملاحظ في مقدمة الشوكاني رحمه الله أنه يعلل ما يقوله، ثم يستدل بما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية.

     ومن جانب تربوي يستفاد من المقدمة في حث الأبناء على العلم وإخلاص النية لله U في طلبه وأن لا يكون السعي والاجتهاد في طلب العلم لأمور الدنيا، بل يكون خالصاً لله تعالى، ثم لإفادة المسلمين، ولا بأس من نيل الشهادات.

الفصل الأول

الأسباب المؤدية إلى التعصب وإلى الخروج عن دائرة الإنصاف

إن أسباب الخروج عن دائرة الإنصاف والوقوع في موبقات التعصب كثيرة جداً:

أولاً/ أثر البيئة والتنشئة الاجتماعية وقصور العلماء عن أداء رسالتهم.

ثانياً/ تزلف بعض العلماء للسلطة وإخضاع الدين لهواها طمعاً في المال والمناصب.

ثالثاً/ الجدل والمراء وحب الظهور والغلب.

رابعاً/ التعصب للآباء والأجداد.

خامساً/ أثر الدولة في فرض المذهب الذي يخدم مصلحتها ويدعم شريعتها.

سادساً/ إصرار البعض على التمسك بالخطأ وعدم التراجع عنه بعد معرفة الحق والصواب.

     وَمن آفَات التعصب الماحقة لبركة الْعلم أَن يكون طَالب الْعلم قد قَالَ بقول فِي مَسْأَلَة كَمَا يصدر مِمَّن يُفْتِي أَو يصنف أَو يناظر غَيره ويشتهر ذَلِك القَوْل عَنهُ فَإِنَّهُ قد يصعب عَلَيْهِ الرُّجُوع عَنهُ إِلَى مَا يُخَالِفهُ وَإِن علم أَنه الْحق وَتبين لَهُ فَسَاد مَا قَالَه (ويرجع ذلك لأسباب):

أ‌-                 الخوف على سمعته ومكانته العلمية.

ب‌-           بدافع الكير إذا كان صاحب الرأي الصواب أصغر منه سناً أو أقل شهرة.

ت‌-           ما يقع في مجالس العلم من الطلاب أو الشيوخ من المجاملة.

سابعاً/ رد المصنفين المتمسكين بالمذاهب لكل ما يخالف قواعد مذهبهم من الأدلة.

ثامناً/ الاعتماد على الأدلة التي يحتج بها المتعصبون لأنفسهم، أو ضد خصومهم وعدم الرجوع إلى المصادر الأصلية.

تاسعاً/ التقليد في علم الجرح والتعديل.

عاشراً/ الحسد والمنافسة بين الأقران.

الحادي عشر/ اختلاف قواعد ومناهج البحث في أصول الفقه والتباسهما بما ليس فيهما.

     وقد تم اختيار السبب الثالث (الجدل والمراء وحب الظهور والغلب) حيث يقول الشوكاني رحمه الله:

     وَمن جملَة الْأَسْبَاب الَّتِي يتسبب عَنْهَا ترك الْإِنْصَاف وكتم الْحق وغمط الصَّوَاب مَا يَقع بِي أهل الْعلم من الْجِدَال والمراء فَإِن الرجل قد يكون لَهُ بَصِيرَة وَحسن إِدْرَاك وَمَعْرِفَة بِالْحَقِّ ورغوب إِلَيْهِ فيخطئ فِي المناظرة ويحمله الْهوى ومحبة الغلب وَطلب الظُّهُور على التصميم على مقاله وَتَصْحِيح خطأه وتقويم معوجه بالجدال والمراء وَهَذِه الذريعة الإبليسية والدسيسة الشيطانية قد وَقع بهَا من وَقع فِي مهاوي من التعصبات ومزالق من التعسفات عَظِيمَة الْخطر مخوفة الْعَاقِبَة وَقد شاهدنا من هَذَا الْجِنْس مَا يقْضى مِنْهُ الْعجب فَإِن بعض من يسْلك هَذَا المسلك قد يُجَاوز ذَلِك إِلَى الْحلف بِالْإِيمَان على حَقِيقَة مَا قَالَه وصواب مَا ذهب إِلَيْهِ وَكَثِيرًا مِنْهُم يعْتَرف بعد أَن تذْهب عَنهُ سُورَة الْغَضَب وتزول عَنهُ نزوة الشَّيْطَان بِأَنَّهُ فعل ذَلِك تعمدا مَعَ علمه بِأَن الَّذِي قَالَه غير صَوَاب وَقد وَقع مَعَ جمَاعَة من السّلف من هَذَا الْجِنْس مَالا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحصْر وَصَارَ ذَلِك مَذَاهِب تُروى وأقوال تُحكى كَمَا يعرف ذَلِك من يعرفه.

      ذكر الشوكاني رحمه الله عدة أسباب تؤدي إلى التعصب وإلى الخروج عن دائرة الإنصاف، ومنها الجدل والمراء وحب الظهور، وقد يحصل ذلك في المناظرات العلمية، فالبعض يدرك أن الرأي المخالف لرأيه صوابه، ولكن تأخذه نشوة الغلبة وحب الظهور بأنه على صواب، فلا يعترف بذلك؛ خشية أن تهتز صورته أمام الناس من وجهة نظره، وقد يصل المقام به إلى يحلف بالله ويقع في منزلق أخطر وكل ذلك لما زين ووسوس له الشيطان.

     ومن الجانب التربوي ينبغي على المربي أن يحذر الأبناء من الجدل الذي لا طائل له، وأن يغرس في نفوسهم احترام الرأي المخالف، ولا يأخذوا الأمور على محمل شخصي سعياً لإثبات آرائهم، بل المجادلة بالتي هي أحسن.

الفصل الثاني

طبقات/ فئات المتعلمين وما ينبغي أن يتعلمه طلاب كل فئة من العلوم

     فَأَقُول إِنَّهَا لما كَانَت تَتَفَاوَت المطالب فِي هَذَا الشَّأْن وتتباين الْمَقَاصِد بتفاوت همم الطالبين وأغراض القاصدين فقد ترْتَفع همة الْبَعْض مِنْهُم فيقصد الْبلُوغ إِلَى مرتبَة فِي الطّلب لعلم الشَّرْع ومقدما لَهَا يكون عِنْد تَحْصِيلهَا إِمَامًا مرجوعا إِلَيْهِ مستفادا مِنْهُ مأخوذا بقوله مدرسا مفتيا مصنفا وَقد تقصر همته عَن هَذِه الْغَايَة فَتكون غَايَة مقْصده ومعظم مطلبه وَنِهَايَة رغبته أَن يعرف مَا طلبه مِنْهُ الشَّارِع من أَحْكَام التَّكْلِيف والوضع على وَجه يسْتَقلّ فِيهِ بِنَفسِهِ وَلَا يحْتَاج إِلَى غَيره من دون أَن يتَصَوَّر الْبلُوغ إِلَى مَا تصَوره أهل الطَّبَقَة الأولى من تعدِي فَوَائِد معارفهم إِلَى غَيرهم وَالْقِيَام فِي مقَام أكَابِر الْأَئِمَّة ونحارير هَذِه الْأمة وَقد يكون نِهَايَة مَا يُريدهُ وَغَايَة مَا يَطْلُبهُ أمرا دون أهل الطَّبَقَة الثَّانِيَة وَذَلِكَ كَمَا يكون من جمَاعَة يرغبون إِلَى إصْلَاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم بِمَا يقتدرون بِهِ على فهم مَعَاني مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الشَّرْع وَعدم تحريفه وَتَصْحِيفه وتغيير إعرابه من دون قصد مِنْهُم إِلَى الِاسْتِقْلَال بل يعزمون على التعويل على السُّؤَال عِنْد عرُوض التَّعَارُض والاحتياج إِلَى التَّرْجِيح فَهَذِهِ ثَلَاث طَبَقَات للطلبة من المتشرعين الطالبين للاطلاع على مَا جَاءَ فِي الْكتاب وَالسّنة إِمَّا كلا أَو بَعْضًا بِحَسب اخْتِلَاف الْمَقَاصِد وتفاوت المطالب وَثمّ طبقَة رَابِعَة يقصدون الْوُصُول إِلَى علم من الْعُلُوم أَو علمين أَو أَكثر لغَرَض من الْأَغْرَاض الدِّينِيَّة والدنيوية من دون تصور الْوُصُول إِلَى علم الشَّرْع فَكَانَت الطَّبَقَات أَربع.

     وَيَنْبَغِي لمن كَانَ صَادِق الرَّغْبَة قوي الْفَهم ثاقب النّظر عَزِيز النَّفس شهد الطَّبْع عالي الهمة سامي الغريزة أَن لَا يرضى لنَفسِهِ بالدون وَلَا يقنع بِمَا دون الْغَايَة وَلَا يقْعد عَن الْجد وَالِاجْتِهَاد المبلغين لَهُ إِلَى أَعلَى مَا يُرَاد وَأَرْفَع مَا يُسْتَفَاد فَإِن النُّفُوس الأبية والهمم الْعلية لَا ترْضى بِدُونِ الْغَايَة فِي المطالب الدُّنْيَوِيَّة من جاه أَو مَال أَو رئاسة أَو صناعَة أَو حِرْفَة.

     ذكر الشوكاني رحمه الله أن الناس في طلب العلم على أربع طبقات، تعود إلى القدرات والاهتمامات والأهداف التي يرجوها طالب العلم في كل طبقة.

     فأول الطبقات أصحاب الهمم العالية الذين يقصدون البلوغ إلى مرتبة في طلب علم الشرع ومقدماته، وهم الذين يصلون بإذن الله تعالى إلى أقصى فائدة، بين تعليم ذلك العلم والإفتاء والتصنيف.

     والمرتبة الثانية أقل من الأولى، فحد همتهم أن يعرفوا ما طلبه الشارع من أحكام التكليف والوضع على وجه يستقل بنفسه، دون الحاجة إلى غيره، ولا يسعون لإفادة غيرهم سواء في التعليم أو التصنيف ونحو ذلك.

     أما المرتبة الثالثة، وهي دون المرتبة الثانية، يريدون إصلاح ألسنتهم وتقويم أفهامهم يما يقتدرون عليه من فهم للمعاني دون تحريف أو تصحيف أو تغيير إعرابه، ولا يجدون حرجاً في سؤال أهل العلم عن ما لا يعرفون.

    وفي المرتبة الرابعة، وهي أقل المراتب طلباً للعلم، فهم يقصدون الوصول إلى علم من العلوم أو أكثر لغرض ديني أو دنيوي دون تصور للوصول إلى علم الشرع.

     ثم بدأ الشوكاني في شحذ همة طالب العلم ووصفه بصادق الرغبة، وعالي الهمة، وثاقب النظر، وعزيز النفس، وغيرها. بأن عليه أن لا يرضى بمراتب أقل في طلب العلم، وأن يمعن النظر في أعلى مرتبة بأن يطلب العلم خالصاً لله، ثم يعلمه ويكون مرجعاً للناس وملماً بالشرع وأن يصنف التصانيف في ذلك العلم وأن يكون مفتياً؛ فهو بهذه الطبقة أو المرتبة، يكون تعلم وعلم ونفع ذاته والناس أجمعين.

     ومن الجانب التربوي يستفاد من ذلك في تشجيع الأبناء وشحذ هممهم بأن يتطلعوا إلى أعلى الطبقات في طلب العلم، فتكون النية خالصة لله U وأن يتعلموا ثم يعلموا ويتركوا خلفهم التصانيف والتآليف التي تفيد الأمة الإسلامية.

الفصل الثالث

مباحث عامة تتضمن إرشاد الباحث إلى بعض القواعد الكلية ليستغني بها عن كثير من الجزئيات.

     وإذا عرفت ما ينبغي لكل طبقة من تلك الطبقات من المعارف العلمية، فلنكمل لك الفائدة بذكر مباحث ينتفع بها طالب الحق ومريد الإنصاف انتفاعاً عاماً ويرتقي به إلى مكان يستغني به عن كثير من الجزئيات:

-       بناء الشريعة على جلب المصالح ودفع المفاسد.

-       وجوب تدبر ومعرفة الكليات الشرعية وإلحاق الجزئيات بها.

-       وجوب الالتزام بالمدلول الحقيقي للألفاظ، وعدم الانتقال عنه إلى المجاز إلا بمسوغ شرعي وعقلي.

-       ضرورة تيقظ الباحث لحيل الفقهاء فلا يغتر بها.

-       نقد المؤلف للحيل الفقهية التي تؤدي لحرمان الإناث من الإرث.

-       تشكيك المؤلف في حجية الإجماع والقياس والاستحسان.

-       ابتلاء الإسلام بالمذاهب وتقديس الأموات.

وسوف يتم الحديث عن: وجوب الالتزام بالمدلول الحقيقي للألفاظ، وعدم الانتقال عنه إلى المجاز إلا بمسوغ شرعي وعقلي.

     وَمن جملَة مَا يَنْبَغِي تصَوره ويعينه استحضاره أَن يعلم أَن هَذِه الشَّرِيعَة الْمُبَارَكَة هِيَ مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة من الْأَوَامِر والنواهي والترغيبات والتنفيرات وَسَائِر مَاله مدْخل فِي التَّكْلِيف من غير قصد إِلَى التعمية والألغاز وَلَا إِرَادَة لغير مَا يفِيدهُ الظَّاهِر وَيدل عَلَيْهِ التَّرْكِيب ويفهمه أهل اللِّسَان الْعَرَبِيّ.

       فَمن زعم أَن حرفا من حُرُوف الْكتاب وَالسّنة لَا يُرَاد بِهِ الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمدلول الْوَاضِح فقد زعم على الله وَرَسُوله زعما يُخَالف اللَّفْظ الَّذِي جَاءَنَا عَنْهُمَا فَإِن كَانَ ذَلِك لمسوغ شَرْعِي تتَوَقَّف عَلَيْهِ الصِّحَّة الشَّرْعِيَّة أَو الْعَقْلِيَّة الَّتِي يتَّفق الْعُقَلَاء عَلَيْهَا لَا مُجَرّد مَا يَدعِيهِ أهل الْمذَاهب والنحل على الْعقل مطابقا لما قد حببه إِلَيْهِم التعصب فأدناه من عُقُولهمْ الْبعد عَن الْإِنْصَاف فَلَا بَأْس بذلك وَإِلَّا فدعوى التَّجَوُّز مردوده مَضْرُوب بهَا فِي وَجه صاحبها، فاحرص على هَذَا فَإِنَّهُ وَإِن وَقع الِاتِّفَاق على أَصَالَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَعدم جَوَاز الِانْتِقَال عَنهُ إِلَّا لعلاقة وقرينة كَمَا صرح بِهِ فِي الْأُصُول وَغَيرهَا فالعلم فِي كتب التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه يُخَالف هَذَا لمن تدبره وأعمل فكره وَلم يغتر بالظواهر وَلَا جمد على قبُول مَا يُقَال من دون بحث عَن موارده ومصادره.

     وَكَثِيرًا مَا يجد المتعصبين يحأمون عَن مذاهبم ويؤثرونها على نُصُوص الْكتاب وَالسّنة فَإِذا جَاءَهُم نَص لَا يَجدونَ عَنهُ متحولا وأعياهم رده وأعجزهم دَفعه أَدْعُو أَنه مجَاز واذْكُرُوا للتجوز علاقَة هِيَ من الْبعد بمَكَان وقرينة لَيْسَ لَهَا فِي ذَلِك الْمقَام وجود وَلَا تَدْعُو إِلَيْهَا حَاجَة وَأَعَانَهُمْ على هَذِه الترهات استكثارهم من تعداد أَنْوَاع الْقَرَائِن والعلاقات حَتَّى جعلُوا من جملَة مَا هُوَ من العلاقات المسوغة للتجوز التضاد فَانْظُر هَذَا التلاعب وتدبر هَذِه الْأَبْوَاب الَّتِي فتحوها على أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة وَقبلهَا عَنْهُم من لم يمعن النّظر ويطيل التدبر فَجَعلهَا علما وَقبلهَا على كتاب الله وَسنة رَسُوله وَأَصلهَا دَعْوَة افتراها على أهل اللُّغَة متعصب قد آثر مذْهبه على الْكتاب وَالسّنة لم يسْتَطع التَّصْرِيح بترجيح الْمَذْهَب على الدَّلِيل فدقق الْفِكر وأعمق النّظر عنادا الله تَعَالَى وبغيا على شَرِيعَته وخداعا لِعِبَادِهِ فَقَالَ هَذَا الدَّلِيل وَإِن كَانَ مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيّ يُخَالف مَا نَذْهَب إِلَيْهِ فَهُوَ هُنَا مجَاز والعلاقة كَذَا والقرينة كَذَا وَلَا علاقَة وَلَا قرينَة.

       فَيَأْتِي بعد عصر هَذَا المتعصب من لَا يبْحَث عَن الْمَقَاصِد وَلَا يتدبر المسالك كَمَا يَنْبَغِي فَيجْعَل تِلْكَ العلاقة الَّتِي افتراها ذَلِك المتعصب من جملَة العلائق المسوغة للتجوز وَلِهَذَا صَارَت العلاقات قَرِيبا من ثَلَاثِينَ علاقَة ثمَّ لما كَانَ مِنْهُ جملَة أَنْوَاع الْقَرَائِن الْعُرْفِيَّة والعقلية افترى كل متعصب على الْعقل وَالْعرْف مَا شَاءَ وصنع فِي مَوَاطِن الْخلاف مَا أراد. وَالله الْمُسْتَعَان.

      يذكر الشوكاني رحمه الله أن على طالب العلم أن يستحضر في ذهنه دائماً أن مصادر الشريعة المباركة شملت الأوامر والنواهي وما يرغب وما ينفر وسائر التكاليف بشكل واضح وبين ظاهر يفهمه أهل اللسان العربي، فكل حرف جاء في هذه المصادر له مدلوله الواضح، ومن زعم واعتقد غير ذلك فمردود عليه ما جاء به.

     ثم أشار الشوكاني إلى المتعصبين الذين يحامون عن مذاهبهم ويؤثرونها على نصوص الكتاب والسنة، عندما يأتيهم الدليل ويعجزهم الرد، يدعون أنه مجاز وما يستندون عليه لا علاقة له بالصحة.

     وهناك من يصدقهم، بينما هي دعوى افتراها من تعصب لمذهبه، ثم حذر من عاقبة هذا بعد عصر ذلك المتعصب، بأن يأتي البعض الذي لا يبحث عن المقاصد ولا يتدبر المسالك كما ينبغي فيجعل تلك العلاقة التي افتراها المتعصب مسوغة للتجاوز.

    انتهى بحمد الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق