الثلاثاء، 7 مارس 2023

قضايا نقدية من كتاب الأخلاق والسير لابن حزم

 

 قضايا نقدية من كتاب الأخلاق والسير لابن حزم

     إن الحمد لله والصلاة والسلام على خير الأنام سيدنا محمد r وبعد:

البيانات الببليوجرافيا للكتاب:

اسم الكتاب: الأخلاق والسير في مداوة النفوس.

اسم المؤلف: أبي محمد علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي.

اسم ضابط النص وتخريج الأحاديث والتعليق عليه: طارق بن عبدالواحد بن علي.

الناشر: دار ابن الجوزي – الدمام.

الطبعة: الثانية- 1438ه.

عدد الصفحات: 128.

ترجمة المؤلف:

      أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي اليزيدي، كان جده (يزيد) مولى للأمير يزيد أخي معاوية. وكان جده (خلف بن معدان) أول من دخل الأندلس في صحابة ملك الأندلس عبدالرحمن بن معاوية بن هشام؛ المعروف بالداخل.

نشأته وحياته:

      ولد أبو محمد بقرطة؛ في سنة أربع وثمانين وثلاثمئة. نشأ في تنعم ورفاهية، ورزق ذكاءً مفرطاً، وذهناً سيالاً، وكتباً نفسية كثيرة، وكان والده من كبراء أهل قرطبة؛ عمل الوزارة في الدولة العامرية، وكذلك وَزِرَ أبو محمد في شبيبته، وكان قد مهر أولا في الأدب والأخبار والشعر، وفي المناطق وأجزاء الفلسفة.

      عالم من أكبر علماء الإسلام في التصنيف والتأليف بعد الطبري، وهو حافظ وفقيه ظاهري، أديب شاعر نسَّابة عالمٌ بسند الحديث النبوي، ناقد فيلسوف، وهو من أوائل العلماء الذين قالوا بكروية الأرض، كان ابن حزم الظاهري وزيرًا سياسيًا من وزراء بني أمية في الأندلس، بدأ ابن حزم حياته وهو على مذهب المالكية ثمَّ غيَّر إلى الشافعية ثمَّ ثبت على الظاهرية فلُقِّب بالظاهري، وقد شُرِّد ونفي عن وطنه بعد العداء الذي نشب بينه وبين جماعة من المالكية، فمات في أرض والديه في بلد اسمها مونتيخار عام 1064م
      عاش ابن حزم الأندلسي في أوائل حياته في قصر أبيه الذي كان وزيرًا من وزراء المنصور بن أبي عامر، وقد تربَّى في تلك الفترة من حياته على يد جواري القصر، وقد نشأ ابن حزم في أسرة مسلمة، جدُّه الأعلى هو يزيد بن أبي سفيان الذي عاش في الشام وشارك في عدد من الفتوحات الإسلامية، وقد احتلَّت أسرة ابن حزم مكانة رفيعة في الأندلس حيث امتلكت أسرته قرية كاملة هناك وهي قرية منت ليشم، أمَّا تعليمه فقد درس ابن حزم المنطق على يد محمد بن الحسن القرطبي، ودرس الحديث على يد يحيى بن مسعود، وأخذ الفقه الشافعي على يد عدد من شيوخ قرطبة، وبعد أن تعلَّم المذهب الشافعي انتقل إلى الظاهري فعُرف بابن حزم الظاهري، وككثير من الناس قاسى ابن حزم نار الفتنة التي قامت في قرطبة في الفترة التي كان يكتب فيها كتابه “طوق الحمامة في الألفة والأُلاف” ثمَّ ترك ابن حزم قرطبة وهاجر إلى ألمريَّة، وبسبب انشغاله بالسياسة ونضاله من أجل إعادة بناء الدولة الأموية في الأندلس، لقي ابن حزم عذابًا كبيرًا، فتعرَّض للنفي والتشريد إلى أن سقطت الخلافة الأموية في الأندلس بشكل نهائي، وبعدها فرَّغ ابن حزم نفسه من أجل العلم والتأليف.
من شيوخه:

     سعى ابن حزم الظاهري إلى العلم وهو في سن مبكرة، فأخذ عن كبار العلماء والمشايخ، وكان جده قد ساعده في تحصيله العلمي وأرسله إلى خيرة مشايخ وفقهاء عصره، وقد كان لابن حزم مشايخ في الحديث والتاريخ والفقه والفلسفة والطب، وفيما يأتي مجموعة من أسماء هؤلاء المشايخ الذين نهل من علمهم ابن حزم الأندلسي:

1/ أحمد بن محمد بن سعيد بن الجسور القرطبي.

2/ مسعود بن سليمان بن مفلت الشنتريني القرطبي المعروف بابي الخيار.

3/ القاضي أبو بكر حمام بن أحمد الأطروش القرطبي.

4/ أبو علي الحسين بن سلمون.

5/ محمد بن الحسن الرازي الصوفي.

6/ محمد بن سعيد بن نبات.

7/ ابو الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني العدوي.

8/ ابو عبدالله محمد بن الحسن الكناني القرطبي.

9/ أبو سعيد مولى الحاجب جعفر.

10/ البزار محمد بن عبدالله بن هانئ اللخمي.

11/ أبو عبدالله بن عبدالرحمن بن جحاف المعافري قاضي بلنسية.

12/ أبو المطرف عبدالرحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس.

مناصبه وانجازاته:
      تولى ابن حزم وزارة للمرتضي في بلنسية، ولما هزم وقع ابن حزم في الأسر وكان ذلك في أواسط سنة (409) هجريه، ثم أطلق سراحه من الأسر، فعاد إلى قرطبة.

     كما تولي الوزارة لصديقه عبد الرحمن المستظهر في رمضان سنة (412) هجرية، ولم يبق في هذا المنصب أكثر من شهر ونصف، فقد قتل المستظهر في ذي الحجة من السنة نفسها، وسجن ابن حزم ثم عفي عنه.

     وتولى الوزارة أيام هشام المعتد فيما بين سنتي (418-422) هجرية.

من مؤلفاته:

الفصل في الملل والأهواء والنحل

المحلى شرح المجلى

طوق الحمامة

 الإحكام في أصول الأحكام

 الأخلاق والسير

 التلخيص لوجوه التخليص

 الرسالة الباهرة

 ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل

 مراتب الإجماع
وفاته:

     كانت وفاته في عام 456ه وعمره 71 سنة (موقع إسلام أون لاين).

نقد المقدمة:

     أما بعد فَإِنِّي جمعت فِي كتابي هَذَا مَعَاني كَثِيرَة أفادنيها واهب التَّمْيِيز تَعَالَى بمرور الْأَيَّام وتعاقب الْأَحْوَال بِمَا منحني عز وَجل من التهمم بتصاريف الزَّمَان والإشراف على أَحْوَاله حَتَّى أنفقت فِي ذَلِك أَكثر عمري وآثرت تَقْيِيد ذَلِك بالمطالعة لَهُ والفكرة فِيهِ على جَمِيع اللَّذَّات الَّتِي تميل إِلَيْهَا أَكثر النُّفُوس وعَلى الازدياد من فضول المَال وزممت كل مَا سبرت من ذَلِك بِهَذَا الْكتاب لينفع الله تَعَالَى بِهِ من يَشَاء من عباده مِمَّن يصل إِلَيْهِ بِمَا أَتعبت فِيهِ نَفسِي وأجهدتها فِيهِ وأطلت فِيهِ فكري فَيَأْخذهُ عفوا وأهديته إِلَيْهِ هَنِيئًا فَيكون ذَلِك أفضل لَهُ من كنوز المَال وَعقد الْأَمْلَاك إِذا تدبره ويسره الله تَعَالَى لاستعماله وَأَنا راج فِي ذَلِك من الله تَعَالَى أعظم الْأجر لنيتي فِي نفع عباده وَإِصْلَاح مَا فسد من أَخْلَاقهم ومداواة علل نُفُوسهم وَبِاللَّهِ أستعين، وحسبنا اللهُ تعالى وتِعمَ الوكيل. (ص: 17)

     بدأ ابن حزم رحمه الله كتابه بمقدمة مشوقة، تستجلب العقول وتستجذب الأذهان، فقد أشار من البداية عن محتوى كتابه بأنه جمع من الخبرات التي مر بها خلال حياته بمختلف أحوالها، والتي ألهمه إياها الله U ووفقه في الاطلاع وإمعان النظر بين طياتها وأدق تفاصيلها التي مرت به أو شاهدها على الخلائق من ملذات وحب للدنيا. ومنه يظهر في الجانب النقدي أن يقوم على: توفيق الله U والهمة العالية وإعمال الفكر.

     كما اعتبر ابن حزم رحمه الله أن كتابه بمثابة الكنز الذي يورثه لغيره؛ إذا ما قرأه المسلم بتمعن وتمحيص وتدبر، فهو خير من جمع الأموال بأنواعها.

      حيث أوضح رحمه الله غاية جمعه وتأليفه؛ بأن يكون خالصاً لله تعالى ونافعاً للمسلمين، فيرشدهم إلى الخير ويهديهم خلاصة تجاربه في الحياة، مصلحاً ما فسد من الأخلاق مداوياً علل النفوس ومهذبها.

فصل: بين الفضائل والرذائل.

     "لَيْسَ بَين الْفَضَائِل والرذائل وَلَا بَين الطَّاعَات والمعاصي إِلَّا نفار النَّفس وأنسها فَقَط فالسعيد من أنست نَفسه بالفضائل والطاعات ونفرت من الرذائل والمعاصي والشقي من أنست نَفسه بالرذائل والمعاصي ونفرت من الْفَضَائِل والطاعات وَلَيْسَ هَا هُنَا إِلَّا صنع الله تَعَالَى وَحفظه". (ص:23)

     يصف ابن حزم رحمه الله الحد الذي بين الفضيلة والرذيلة، والطاعة والمعصية، بأنه يكون بقبول النفس أو عدم تقبلها. هل تتقبل ذلك وتأنس به أم تنفر وتشمئز منه.

     فيتضح نقد ابن حزم رحمه الله للرذائل والمعاصي بقوله نفار النفس منها، وعلى النقيض يكون الأُنس باتباع الفضائل والطاعات. فهو عند عرضه للصفة يأتي بنقيضها، وهنا وضع المعيار الفاصل بين هذه المتناقضات. بعد ذلك جاء بخلاصة القول أن هذا الأمر يكون بتوفيق الله وهدايته وإعانته وحفظه.

     ومن جانب تربوي يستفاد من النص في توعية الأبناء بالفرق بين الفضائل والرذائل القولية والفعلية، وطاعة الله ومعصيته. وترغيبهم في الفضائل والطاعات وغرس حبها في نفوسهم، وتحذيرهم وتنفيرهم من الرذائل والمعاصي التي تغضب الله تعالى.

فصل: في العلم (هيبةُ العالم وإجلاله).

     "لَو لم يكن من فضل الْعلم إِلَّا أَن الْجُهَّال يهابونك ويجلونك، وَأَن الْعلمَاء يحبونك ويكرمونك: لَكَانَ ذَلِك سَببا إِلَى وجوب طلبه؛ فَكيف بِسَائِر فضائله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة! وَلَو لم يكن من نقص الْجَهْل إِلَّا أَن صَاحبه يحْسد الْعلمَاء ويغبط نظراءه من الْجُهَّال: لَكَانَ ذَلِك سَببا إِلَى وجوب الْفِرَار عَنهُ؛ فَكيف بِسَائِر رذائله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة!" (ص: 27)

     في هذا النص يتجلى أسلوب ابن حزم رحمه الله، عندما يبدي نصيحته يقدم الشيء ونقيضه، فأتى بالعلم ونقيضه الجهل. ولكنه استخدم أسلوباً جميلاً في جذب القارئ ولفت انتباهه؛ فافترض أنه في حال لا توجد غير فضيلة واحدة للعلم، وهي أنها تمنح صاحبها الهيبة أمام الجهال، والمحبة من أهل العلم، لكان ذلك فضلٌ عظيم، وسببٌ وجيه في طلب العلم.

     فبعد أن جعل القارئ يذهب بعقله وتفكيره إلى ذلك الفضل، يأخذه إلى بُعد أوسع، وهو ما للعلم من فضل وخير لصاحبه في الدنيا والآخرة، فهذا أدعى للأخذ به والمضي قدماً في طلبه والتحلي به.

      ثم يعرج على نقيضه، وهو الجهل الذي يملأ قلب الجاهل بحسد العلماء الذين هو بمنأى عنهم وفضلهم، ويغبط من كان على شاكلته من الجهل، فعندما يستشعر ذلك وما فيه من شر ورذيلة؛ عليه أن ينفر ويفر من ذلك الطريق.

      وأما عند تناول النص من وجهة نظر تربوية، فهو يعتبر من أكبر المحفزات التي تدفع الطلاب إلى طلب العلم، والجد والاجتهاد، وغرس الطموح للطالب، والتحلي بالفضائل والطاعات القولية والفعلية. ثم بيان فضله الذي يرفع أصحابه بين الناس، ويفرض الهيبة والوقار للعالم بين العامة، ويجعله محبوباً وفي مكانة مرموقة بين العلماء. وعلى نقيضه الجهل والاستهتار وعدم الجدية في طلب العلم وما يصحبه من رذائل ومعاصي.

فصل: تكرار النصيحة.

     "وَإِذا نصحت فانصح سراً - لا جهراً – وبتعريضٍ - لَا تَصْرِيح -؛ إِلَّا أَلَّا يفهمَ المنصوحُ تعريضك؛ فَلَا بُد من التَّصْرِيح له، ولا تنصح على شرط القبول منك". (ص:58)

     يتكرر أسلوب ابن حزم رحمه الله في استخدام الشيء ونقيضه: السر والجهر، التعريض والتصريح. في إشارة منه رحمه الله إلى أهمية النصيحة، حيث يرى أن النصيحة عندما تسديها لأي أحد كان، لا تخلو من ثلاث.

     أولها أن تكون في السر مباشرة أو بتلميح حول الفعل؛ وذلك لما فيها من ستر على المنصوح، فيكون للنصيحة وقع في النفس فيتحقق المراد منها، خشية أن ينصح جهراً فيصاب الفاعل بحرج أمام الآخرين فقد يتطاول عليه الناس فيحصل ما لا يحمد عقباه منهم جميعاً، أو لا يؤثر فيه النصح فيستمر في فعله.

     ثانيها أن تكون بأسلوب التعريض فيشار إلى الفعل وينبه منه ومن خطورته دون المساس بالفاعل؛ بغية اشعاره بجسامة الأمر أو فحاشته أو ما يؤول إليه.

     ثالثها لا تكون إلا بعد أن نفذت محاولات الناصح في أن يستجيب له المنصوح سواء أكانت النصيحة سراً أو تعريضاً، فبذلك يحتاج إلى أقسى أنوع النصح وهي بشكل مباشر سواء أكانت بين الطرفين أو بحضور جمع من الناس.

     ثم يختم ذلك رحمه الله بقوله: "ولا تنصح على شرط القبول منك" فعلى الناصح أن يُقدم نصيحته دون أن يتوقع قبولها من المنصوح، فكل ما عليه الأخذ بالأسباب وتقديم ما يقوله مغلفاً بالمحبة قاصداً بذلك الأجر والمثوبة.

     وعند النظر من وجهة نظر تربوية، يتبين أن على المعلم أو المربي استخدام هذه الأساليب الثلاث في نصح وتوجيه طلابه وأبنائه.

خاتمة كتابه:

        يقول ابن حزم رحمه الله في نهاية كتابه: "جعلنَا اللهُ مِمَّن يوفَّقُ لفعل الْخَيْر وَالْعَمَل بِهِ، وَمِمَّنْ يُبصِرُ رُشدَ نَفسه؛ فَمَا أحدٌ إِلَّا لَهُ عُيُوبٌ إِذا نظرها شغلَتْه عَن غَيره، وتوفانا على سنةِ مُحَمَّدٍ r؛ آمين رب الْعَالمين". (ص: 116)

     كما بدأ رحمه الله في مقدمة كتابه بأسلوب التشويق والتحفيز على الاطلاع بتمعن في كتابه الذي جمعه من خلال خبرات وتجارب ومشاهدات ومعاملات، كذلك أنهى كتابه بدعوات مباركات، بأن يوفقنا الله U لفعل الخير والعمل به، وأن نُبصِرَ رشدَ أنفسنا.

     فمن يقرأ الكتاب ويمر على نهايته فيقرأ الدعاء سوف يستشعر أهمية التوفيق لفعل الخير والعمل به، وأن العيوب لا يخلو منها أي أحد؛ فالواجب المسارعة في التفتيش والتنقيب عنها فبذلك ينشغل في إصلاح ذاته لما فيه الفلاح.

     وكأنه يلخص ما أورده من نصح وتوجيه في كتابه، ويركز على فعل الخير والعمل به وترك الشر والابتعاد عنه، وتكون سنة نبينا محمد r هي منهجنا في حياتنا إلى مماتنا، آمين رب العالمين.

     وهذه الخاتمة تحوي أبعاداً تربوية عميقة، فعلى المربي أن يوضح للمتربي أهمية التوفيق لفعل الخير والعمل به، وتجنب كل ما به شر والفرار منه، وأن ينشغل الأبناء في إصلاح ذواتهم وترك الانشغال بالآخرين، وأن يقتدوا بسنة رسولنا الكريم r وأن يتمسكوا بها في حياتهم إلى مماتهم، اللهم آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق